في عام 1949كتب جورج أورويل رواية (1984) والتي كان يتنبأ من خلالها بمصير العالم الذي ستحكمه قوى كبيرة تتقاسم مساحته وسكانه ولا توفر أحلامهم وطموحاتهم بل تحولهم إلى مجرد أرقام في جمهوريات الأخ الأكبر الذي يراقب كل شيء ويعرف كل شيء، لقد وصف جورج أورويل بشكل دقيق تحول القيم البشرية إلى أشياء هامشية ومن ثم سطوة الأحزاب السلطوية على الناس والشعوب ليكونوا مجرد أرقام هامشية في الحياة بلا مشاعر ولاعواطف وليس لديهم طموحات أو آمال، حيث يعملون كالآلات خوفا من الأخ الأكبر ولينالوا رضاه لأنه يراقبهم على مدار الساعة.
يذكرني بهذه القصة الصراع القديم بين جماعة الأخوان المسلمين التي كانت تسوق نفسها لدى الناخبين والخارج على أنها البديل المتدين المعتدل للسلفيين والدعوة السلفية هذه الصورة هزها النور بشدة في الفترة الأخيرة عبر عدة قرارات أبرزها مبادرة النور لوقف العنف والمصالحة الوطنية التي رأها الإخوان أنها تسحب البساط من تحت أقدامهم وبالتالي فقد الصراع أبرز ملامحه وهي أنه لم يعد مكتوماً في الفترة الأخيرة.
صراع قديم بدأ منذ نشأة الدعوة السلفية في السبعينيات حينما فتح الراحل أنور السادات المجال أمام الجماعات الإسلامية للعمل العام (ربما خوفاً من سيطرة الشيوعيين) فأنشأوا ما يسمى بالجماعة الإسلامية التي كانت تضم الإسلاميين بكافة أطيافهم.
بعد خروج الإخوان من السجون ومع بدءالتأسيس الثاني لها أرادوا السيطرة على الجماعة الإسلامية لكي تتحول لفرع النشاط الجامعي للإخوان وهو ما قابله البعض بالرفض بالتالي خاض الإخوان وقتها حرباً شعواء لطرد هؤلاء الشباب -الذين صاروا فيما بعد مؤسسي الدعوة السلفية - من كل مكان بما فيها المساجد إلى أن استقرت أوضاعهم على ماهم عليه الآن.
من الجدير بالذكر أن مجموعات الإسلاميين بالصعيد كانت أحسن حظاً من هؤلاء فطردوا الإخوان من الصعيد واستقلوا باسم الجماعة الإسلامية التي تبنت مساراً عنيفاً لم يلبث أن تراجعت عنه أواخر التسعينيات فيما يعرف بالمراجعات الفكرية.
الشاهد أن جماعة الإخوان منذ البداية اختارت التعامل بمنطق الأخ الأكبر، حيث رأت أن الفهم الصحيح للإسلام هو فقط فهمها والمشروع الإسلامي هو فقط مشروعها وغاية ما يسمح للآخرين –إن سمح لهم بالوجود – هو تأييد الإخوان وأبسط الشواهد على هذا ما أسفرت عنه مفاوضات النور والبناء والتنمية قبل الانتخابات البرلمانية 2012 مع الحرية والعدالة الذين اقترحوا عليهم ألا يدخلوا المعترك السياسي ويكتفوا بتأييد الأخوان.
مع البروز المفاجئ لتحالف النور في الانتخابات وظهور قدرتهم على الحشد في عدة مناسبات اتجه الإخوان لاستراتجية جديدة لكسر الاصطفاف السلفي حول حزب النور والدعوة السلفية على مستوى المرجعية والقيادة الميدانية وهي أخونة السلفيين.
على مستوى المرجعية أيد الإخوان وبشدة إنشاء كيانات موازية للدعوة مثل الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح تمهيداً لدفعها بعيداً عما أسست من أجله ككيان تشاوري لا يتخذ قرارات للقيام بدور سياسي يؤيد غالبا قرارات الأخوان، وهو ما ظهر جلياً في المسارعة بالتأييد المنفرد لمرشح الأخوان في انتخابات الرئاسة قبل إتمام مبادرة الاجتماع على مرشح إسلامي واحد التي قام بها حزب النور آنذاك، ثم كانت واقعة إقالة متشار الرئيس د.خالد علم الدين، لتكون القشة التي قصمت ظهر العلاقة بين الدعوة السلفية والهيئة حيث قام شيوخ الدعوة باستقالات متتالية من الهيئة.
واعتمد الإخوان على محاولة احتواء بعض المشايخ السلفيين الذين ليس لهم انتماء تنظيمي للدعوة السلفية، بل يرون أن الإخوان هم رجال المرحلة مثل د.محمد عبد المقصود (لاحظ أن العلاقة التي نشأت بعد الثورة بين الدعوة السلفية وبقية المشايخ السلفيين خارج الإسكندرية كان مبناها على وجود نوع من التشاور والتعاون مع الاحتفاظ بمسافة وعدم الاندماج).
على المستوى الحركي لم يكن الحديث عن دعم الإخوان لانشقاق حزب الوطن عن حزب النور وهو الأمر الذي يصعب التأكد منه هو الحدث الأهم، بل كان بروز اسم الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل بهذا الشكل في أوساط السلفيين وهو المعروف بعلاقته القديمة مع الإخوان أمراً مدعاة للتساؤل.
المحامي البارع حازم صلاح أبو إسماعيل على عادته في الغموض لا تستطيع أن تقطع شيئاً بشأنه ومن أهم ذلك علاقته وحزبه (الراية) بالإخوان، فالرجل والذي كان مرشحاً سابقاً على قوائم الإخوان لدورتين متتاليتين قبل الثورة، لا ينفي علاقته بهم وفي نفس الوقت لا يثبتها، إلا إن تحفظه الشديد في انتقادهم بالإضافة لخطوته في محاصرة مدينة الإنتاج الإعلامي أثناء حصار الإتحادية فيما يشبه لعب الشطرنج كل ذلك يلقى ظلالاً حول مدى التنسيق بينه وبين مكتب الإرشاد.
حتى لو لم ينتم الشيخ حازم للإخوان فعلياً، إلا أنه مما لا شك فيه أن الرابح الأكبر من حدوث الانشقاق الكبير في صفوف السلفيين بسببه وإن كان الناظر برى أن الخصم لصالح الراية لن يكون كبيراً من حصة النور فمعظم مؤيدي حزب الراية هم من السلفيين الذين أيدوا اختيار الإخوان سواء في البرلمان أو الرئاسة أي ليسوا من كتلة النور الصلبة التي مازالت تؤيد حزبها لمواقفه المتشددة في عدة موضوعات مثل الدستور والقرض الدولي خصوصاً مع كسب النور لمتعاطفين جدد يرون في النور بديل معتدل للإخوان.
وجود معارضة للإخوان داخل المشروع الإسلامي (سواء عن طريق حزب النور أو البناء والتنمية ) يعطي بعداً جديداً للصراع وينفي فكرة اقتناع الإسلاميين بخوض معركة الإخوان نيابة عنهم بدعوى أن بسقوط الإخوان يسقط المشروع الإسلامي ككل.